الأربعاء، 20 مايو 2009

مقاربة جذور «التسلط» في الثقافة العربية

الموضوع الذي يقترحه هذا العنوان «الدولة كمنتج ثقافي... مقاربة لجذور التسلط في الثقافة العربية» قد يبدو بدهياً، حد أنه لا يحتاج إلى طرح وحوار. لكن إضافة الوصف المناسب للدولة في تاريخنا وواقعنا، تضعنا أمام قضايا مشكلة لم يحسم الجدل فيها بعد، ولا نظنه سيحسم في يوم قريب. فالدولة في هذا السياق ظلت بنية استبدادية صلبة، تتكرر مرة في شكل امبراطورية ممتدة في أكثر من قارة، ومرة في شكل حيازات إقطاعية صغيرة الحجم قليلة السكان. وأطروحة برهان غليون عن الدولة، التي تعمل ضد المجتمع وجيهة تماماً في هذا السياق.هنا تحديداً نزعم أنه لم يعد يكفي أن تناقش القضية بعد اختزالها في المظهر السياسي. إنها الجزء الظاهر من إشكالية كبرى، لن نفهمها جدياً من دون تحليلها في المستوى الأكثر عمقاً واتساعاً، ونعني في مستوى الثقافة التي تنتج مجمل مؤسسات المجتمع، وتضفي الشرعية على مختلف أشكال السلط، التي تمارس يومياً فيه. هذا البعد هو ما سنركز عليه في هذه المقاربة. وسنركز عليه لا لأنه جزء من الدراسات الثقافية، التي انفتح عليها النقد الأدبي الحديث فحسب، بل لأنه يمكن الباحث من توسيع أفق الفكر وتنويع أدوات المقاربة لقضايا بينية مركبة، قد لا يناسبها المنظور الواحد أصلاً.قبل الدخول في الموضوع، لا بد من التنبيه إلى مسألتين مهمتين نظرياً ومنهاجياً في ما نحسب:المسألة الأولى، أن المثقف العربي اليوم لا يستطيع أن يدعي أنه يتفكر ويتخيل ويتحدث ويكتب بحرية، وإن ادعى ذلك فهو واهم أو خائف لا غير. فهناك عوائق كثيرة تحد من أفق القول والتصرف أمام الجميع، ولكي نتبينها في المستوى الأكثر عمومية، يكفي أن ندرك أن أحداً منهم لا يستطيع أن يقول في مجال عام، إنه يحترم تراث الأسلاف، ويعده مكوناً أساسياً في هويتنا الحضارية، لكنه لم يعد صالحاً كمرجعية للفكر والعمل في العصر الراهن. ومن يتجرأ على قول كهذا، ولو بصيغة مخففة، تتناوشه السهام من كل الجهات حتى يتراجع، وإن لم يتراجع يهمش وتحاصر كتاباته التي تصنف في حيز الفكر الشاذ المعادي للدين ولمصالح الوطن والأمة.هذه المعضلة التي يعانيها المثقف العربي، المسلم وغيره، لم تعد مطروحة أمام المثقف الهندي أو الصيني أو الياباني. وقد تبدو مفارقة عجيبة غريبة بالنسبة للمثقف في المجتمعات الغربية، إذ يكاد كل جيل يباهي بالقطيعة مع ثقافة الجيل السابق. المسألة الثانية، أن بسيط المعارف الفكرية والعلمية الحديثة التي عادة ما يتمثلها مثقفونا خلال مسيرة تعليمية طويلة شاقة لا تؤثر كثيراً في مجتمعاتهم. فغالبية الناس تبدو محصنة بثقافة بسيطة مقولبة تقاوم التغيير، بل وتغري كثيرين بالدعوة إلى مزيد من أشكال العودة إلى ماض مجيد مليء بالحكايات العظيمة والرموز العليا، التي لا يمكن لأحد بلوغ منزلتها (وهذا أثر ماكر لعبادة الأسلاف العتيقة). لا غرابة بعد هذا في أن تنحصر تأثيرات الخطابات الحديثة في دوائر ضيقة عادة ما تمثلها نخب جديدة قليلة العدد، ونادراً ما يضيف أحد أفرادها شيئاً مختلفاً إلى غيره، نظراً لتشاكل الوعي وتكرارية الخطابات.والبدء بهاتين المسألتين ليس محاولة مبكرة لتبرئة ذمة المثقف، أو تبرير عجزه عن التفاعل والفعل. بل إنه مسلك معرفي يحرر الذات الباحثة من أوهامها بقدر ما يخفف على النخب في عمومها وطأة الوعي المحاصر، الذي قد ينقلب إلى حال مرضية تدفع بنا إلى تبادل الاتهامات بالمسؤولية عما حدث ويحدث من مآس. فالمثقف الذي نتحدث عنه هنا ليس ذلك الفارس البطل الذي يحارب الأعداء ولا يهزم، ولا ذلك العالم الذي يعرف كل شيء ويثق في قدرة الكلام على هداية الناس وإصلاح معاشهم ومعادهم. إنه شخص عادي يتخصص في مجال معين، وحين يجتهد مع غيره في قضايا الشأن العام يكفي أن ينتج بعض الأفكار والمعارف بأقصى قدر ممكن من التعقل والنزاهة عسى أن يعمل آخرون على الإفادة منها عملياً، وهكذا يمكنه أن يشارك في تغيير الواقع نحو الأفضل. من هذا المنظور النقدي، وهو كانطي (من كانط) يلاحظ، سنقارب القضية الآنف ذكرها ولو بأمل تنمية لغة الحوار في مجتمعات عودتها نخبها، المسيطرة والمحاصرة ،على السجالات الحادة حتى لكأن مفردات اللغة أسلحة والناس كلهم خصوم وأعداء!لكي نحدد إطار القضية ومسار المقاربة بشكل واضح ومقنع سنبدأ من المستوى العام للثقافة. فنحن ممن يزعم أن الثقافة العربية السائدة لا تزال تقليدية في مجملها. وتقليديتها تعني أنها تنطوي على منظومات أفكار وقيم ومعايير أنتجت في عصور سابقة بعضها يمكن تحديده في لحظة تاريخية معينة، أكثرها قديم موغل في مجهولات الزمن. وحينما نقول إن تصوراتنا للكون، وأفكارنا عن ذواتنا وعن العالم من حولنا، ومعايير حكمنا على الظواهر والأحداث ليست مؤسسة على منطق العصر ومنجزاته الفكرية والمعرفية، إلا فيما ندر، نروم الوصف لا إطلاق الحكم. ولمزيد من الاحتياط نضيف في الحال إن هذه الوضعية التي يلاحظها المفكر والمؤرخ والاجتماعي والأنتربولوجي، ليست مشكلة في حد ذاتها لأن الثقافات التقليدية تظل حية فاعلة في كل المجتمعات البشرية وإن بصيغ ودرجات مختلفة. المشكلة تبرز جلية عندما تعتقد النخب الفاعلة أن ثقافة الماضي يجب أن تظل سلطة مرجعية تتحكم في كل علاقات التفاعل، فيما بين الأفراد والمؤسسات، ومن ثمة تستعمل كل التقنيات الحديثة لتكريس حضورها في مختلف مجالات التواصل والتبادل الاجتماعي.ففي هذه الحال يتحول التراث إلى مصدر لا ينضب لأدلوجات مثالية مبسطة، يراد لها أن تشتغل في شروط تاريخية جديدة لم يعرفها الأسلاف ولم يشارك الأحفاد في إنجازها.والنتيجة المتوقعة أن تصورات كهذه لا بد أن تعوق سيرورة التقدم، والأسوأ من ذلك أنها تظل تنشر وعياً خاطئاً أو مزيفاً أو مغالطاً يزيد الأمور تعقيداً والتباساً. فالإنسان الذي يعاني ولا يدرك أن ثقافته اليومية هي من أقوى أسباب شقائه وضعفه وتخلفه، يتوهم ويصدق أنه ضحية بريئة لقدر تراجيدي أو لعدو شيطاني يتربص به وبأمثاله كل لحظة في كل مكان.لا غرابة بعدئذ أن يتورط الفرد والمجتمع، والدولة ذاتها، في المأزق تلو الآخر وكأن الجميع ألفوا شقاء لا أمل في الخلاص منه إلا بمعجزة ما.يصف المفكر عبدالله العروي هذه الوضعية الصعبة فيكتب: «نواجه داخل الأسرة مشكلة تحديد النسل وتعدد الزوجات وقصور المرأة، في مجال الاقتصاد ضعف الإنتاج وشح الاستثمار والخوف من البضاعة بتذخير المسكوك والتهافت على العقار، في مجال الدفاع الارتجال وضعف التأهيل وانعدام الرؤية السطرجية، في مجال السياسة العجز عن تأمين صدق الانتخابورعاية المصالح.لا تعقل ولا ترشيد في أي من هذه المستويات...» والسبب عنده واحد في العمق وإن تعدد في الظاهر: «عدم الحسم في أي من المشكلات المطروحة، لأن الحسم يتطلب الاعتياد والتمرن على منطق الفعل في حين أننا نطبق على الفعل منطق الاسم لأننا نؤمن ونقول منذ قرون أن الموروث من ثقافتنا مبني على العقل إطلاقا. ولن نستطرد في سرد الشواهد. نعم، نحن نعيش ما يمكن أن يعد حالة «احتباس حضاري»، وليس من مصلحة أحد أن تظل أمة كبيرة العدد غنية بالطاقات تراوح في وضعية التخلف، حتى توشك أن تقذف بالجميع خارج التاريخ الكوني الراهن.وفي كل الأحوال نفضل من جهتنا أن نجتهد للكشف عن الجذر العميق لثقافة الاستبداد والتسلط هذه، وسنتبينه وهو يشتغل في ثلاث بنى اجتماعية - ثقافية إن لم يتم إصلاحها أو إعادة بنائها وفق منطقي العقل والعلم الحديثين، لن تتحرر الطاقات الخلاقة في مجتمعاتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق